كوب الشاي الأخير- تأملات في الحياة قبل الوداع

(1)
لا أدري على وجه الدقة المدة التي أمضيتها متأملاً تلك الصورة المؤثرة: فنجان شاي بين يدي سجين مكبلتين، وذراعين تكتسيهما أثواب السجن القرمزية. يُحكى أن السجين قد سُئل قبيل تنفيذ حكم الإعدام: ما هي أمنيتك الأخيرة؟ ماذا ترغب قبل أن تلفظ أنفاسك الأخيرة؟ فأجاب ببساطة: فنجان شاي. ثم انزوى في هدوء وسكينة، يحتسي رشفاته الأخيرة.
عندما قاربتُ العقد السادس من عمري، أذهلني هذا الرقم، "السادس"! شعَرتُ وكأنني بلغته دفعة واحدة، ثم تساءلت: ما هو مشروع "العشر الأواخر"؟ وكأنني أُسأل عن آخر أمنياتي قبل الموت.
(2)
عندما تكون يافعًا، لا تبالي بقيمة الزمن، فالساعة التي تمر بك الآن ستتكرر مرارًا، وعطلة نهاية الأسبوع التي لم تُرضِك ستعوضها عطلات قادمة، وإن لم تنجز ما خططت له في الشتاء، فسيأتي شتاء آخر، ودراستك التي استبدَّ بك كُرهها يمكنك تغييرها في العام القادم، ومشروعك التجاري، إن كتب له النجاح فذاك المطلوب، وإن باء بالفشل، ففي الإمكان البحث عن مشروع آخر، فما زال الوقت أمامك متسعًا، ولا داعي للعجلة.
لكن عندما تتقدم في العمر وتدخل المرحلة الأخيرة من حياتك، تتغير مشاعرك جذريًا. ربما تكون هذه الجمعة هي الأخيرة، وهذه المهمة هي ختام مساعيك، وهذا الصيف قد لا يعود، لذا يجب عليك أن تفكر مليًا في كل خطوة، وفي كل ساعة تمر بك، فوقتك أصبح محدودًا للغاية.
هذا الأمر يجعلك بالغ الدقة، شديد الحيرة، كثير التردد، فلا مجال هنا للخطأ، ولا فرصة لتعويض الخسائر، يجب أن تكون مقتصدًا في استغلال وقتك، وأن تحذر في إنفاقه.
عندما بلغت مشارف العقد السادس، هالني الاسم، "السادس"! كأنني بلغته فجأة، ثم سألت نفسي: ما مشروع "العشر الأواخر"؟ وكأنني أُسأل عن رغبتي الأخيرة قبل أن يتم تنفيذ الإعدام.
يا ترى، أي فنجان شاي سأطلب؟
تتزاحم الأفكار في ذهنك، تتوق إلى فعل كل شيء، وكأنك في ريعان الشباب!
(3)
ألتقي مصادفة بصديق قديم لم أره منذ زمن بعيد، فأصعق مما فعل به الزمان، ثم أتذكر أن صاحبي في نفس عمري، فأعود إلى حوار داخلي مع نفسي، أُقرُّ بالأمر الواقع، وأتساءل: لماذا يتملقنا الناس ويكررون على مسامعنا أن الشباب هو شباب القلب؟ لماذا يرفضون الاعتراف بالشيخوخة وكأنها وصمة عار أو جريمة يُعاقب عليها القانون؟!
لماذا لا يدركون في الوقت ذاته أن في الشيخوخة ما هو أدهى وأمر من التجاعيد والشعر الأبيض، مثل الشعور بأن معركة الحياة قد انتهت، وأن يتملكك إحساس اللامبالاة، وأن تمضي وقتك في انتظار شبح الموت.
عندما بلغت الستين عامًا، سألت نفسي: ماذا لو عشت للثمانين، على سبيل المثال؟ هل سأقضي عشرين عامًا من حياتي في انتظار الموت فحسب؟! ألن يُحاسب الشيوخ على أوقاتهم كما يُحاسب الشباب على ما اقترفوه؟!
(4)
لا يأتي السؤال وحيدًا أبدًا..
بل يتدفق معه سيل عارم من التساؤلات.
هل عشتُ الحياة حقًا؟ هل استمتعتُ بكل لحظة فيها؟ هل فعلتُ ما كان عليَّ فعله؟ وهل امتنعتُ عما كان يجب أن أمتنع عنه؟
ثم ينفجر بركان الذكريات المدفونة..
إنه الاشتياق العارم إلى الماضي والحزن الدفين على ما فقدناه.
تجلب الذكريات معها الندم.
والندم هو أقسى ما يواجهه المرء عندما يتقدم به العمر..
يندم لأنه يكتشف أنه كان يعيش لحظات السعادة الغامرة دون أن يعي ذلك، بل ربما كان يشكو حينها من سوء الأحوال.
يندم لأنه أخطأ ذات مرة في اختيار المسار..
يندم لأنه عندما أحسن اختيار المسار لم يبذل قصارى جهده، ولم يعطِ الأمر حقه كما ينبغي.
وعندما يخرج المرء من هذه الدوامات اللامتناهية -التي غالبًا لا تزول، بل تختفي مؤقتًا لتعود مجددًا- فإنه يجد نفسه في مواجهة سيل جديد من الأسئلة:
نعيش التوتر والقلق في فترة المراهقة، ونقضي شبابنا في خوض المعارك، ونموت ونحن في خريف العمر، على الرغم من أننا لا نزال على قيد الحياة، فمتى نعيش إذن؟
هل يتفرغ المرء للاستمتاع بما تبقى له من وقت على هذه البسيطة، ويُعَوِّض ما فاته من متع الحياة؟
أم يمضي وقته نادمًا على ما اقترفه من ذنوب، متضرعًا إلى الله طالبًا الصفح والغفران؟
(5)
لطالما فكرت في أننا في نهاية حياتنا نزداد حرصًا على الفوز بالجنة، ونطمح أن نجد فيها ما فقدناه في الدنيا، ما لم نحققه، ما لم ننله، وما نعتقد أننا حُرمنا منه، ولأن وقت الاختبار قد أوشك على الانتهاء، فعلينا أن نجتهد ونجد، فالساعة الأخيرة من الامتحان قد دقت، وليس هناك من سبيل سوى التفرغ لأداء العبادات الدينية.
لكن ألم تكن هذه العبادات واجبة في شبابنا؟ عندما كنا في أوج صحتنا وقوتنا، وهل ندرك في القليل المتبقي من أعمارنا ما قصرنا فيه خلال سنوات شبابنا؟
ثم ماذا يقصد الناس بحسن الختام؟ هل يقصدون أفعالنا في أيامنا الأخيرة، أم يقصدون الطريقة التي تُقبض فيها أرواحنا ونموت عليها؟
ثم لماذا يجب علينا أن نعتزل الحياة، ونقضي أيامنا الأخيرة بين الحسرة على ما فات، وبين العبادات التقليدية؟!
بل الأهم من ذلك، لماذا نختزل فهمنا لأمر العبادات على الصلاة وقراءة القرآن الكريم وحفظه؟!
ثم توصلت إلى الاستنتاج التالي:
عندما تشعر أنك في الرمق الأخير من عمرك، لا تنزوي بعيدًا عن الحياة، بل عشها بكل ما أوتيت من قوة.
عندما تحس أنك في الأنفاس الأخيرة من الحياة، لا تكتفِ بأداء شعائرك الدينية، بالمفهوم التقليدي الذي ورثناه، بل قم بجانب العبادات المفروضة بما ينفع الناس، وستجد في هذا العمل متعة ربما لم تذقها طوال حياتك، وثوابًا قد لا تحصل عليه من قبل.
"مت فارغًا".. لقد لامس هذا الشعار شغاف قلبي بطريقة خاصة.
لا تدفن كل معارفك وخبراتك معك في القبر، تصدق بها يا أخي، ووزعها على الشباب المحتاجين إليها، الذين ما زالت تناديهم الحياة بأصواتها العذبة، اجعلها زكاة عن علمك الغزير وخبرتك الواسعة، زكاة عما أنعم الله به عليك من نجاح وتوفيق.
تخيل أنك ستظل تساهم بصورة أو بأخرى في نمو هذا المجتمع وازدهاره حتى بعد رحيلك. إن الأمر أشبه بصدقة جارية لا تنقطع.
عندما تفشل مساعيك في إيجاد داعم لمشاريعك التدريبية ونقل معارفك إلى الآخرين، وعندما يشترط الداعمون تحقيق الربح المادي، اتركهم والْجأ إلى ما يسَّره العصر الحديث من منصات التواصل وغيرها. فكما نجحت في شبابك في إيجاد حلول لأحلامك وطموحاتك، ستنجح أيضًا في شيخوختك.
عندما تتقدم في العمر، ستشعر وكأنك تنظر إلى العالم من الأعلى، من السماء، أنت لا تراه كجغرافيا جامدة فحسب، بل كتاريخ حافل بالأحداث أيضًا، أنت لا تنظر إلى الأرض فحسب، بل تنظر إلى عمرك وكيف قضيته.
(6)
ماذا تود أن تقول للعالم قبل أن تودعه إلى الأبد؟
يا له من سؤال عسير..
إجابته تستغرق عمرًا مديدًا..
عندما تكبر ستشعر أنك ترى العالم من الأعلى، من السماء، أنت لا تراه كأرض وجغرافيا فحسب، ولكن كتاريخ أيضًا، أنت لا تنظر إلى الأرض فحسب، بل إلى عمرك وفيما أفنيته.
هل تسمعني الآن؟
كم من معركة جانبية خضتها استنفدت فيها طاقتك وجهدك وأبعدتك عن المعركة الرئيسية الحقيقية؟
كم مرة تملكك الخوف والهلع إلى حد الرعب، ثم اكتشفت لاحقًا أنه لا أساس له من الصحة، وأن مخاوفك من نسج خيالك، أنت من غرستها في نفسك بيدك؟
كم مرة تنازلت عن رغباتك الحقيقية إرضاءً لمن حولك، فلم يرضَ مَن حولك ولم تحافظ على نفسك؟
هل أستمر في سرد المزيد؟
هذا العالم قاسٍ وبشع، ولا يستحق كل هذا العناء، الفائز فيه هو من سما بنفسه عنه وترفع.
هذه الحياة عبارة عن دورات تدريبية متتالية، وكل أزمة تمر بها هي دورة جديدة. يمكنك أن تصرخ وتنتحب وتشتكي، ويمكنك مواجهتها بشجاعة وإقدام، فإذا نجحت في تخطيها، انتقلت إلى دورة أخرى، وهكذا دواليك، حتى يغزو الشيب رأسك. وإن رسبت، فستظل تدور في الدائرة نفسها حتى تتمكن من اجتيازها بنجاح.
(7)
ربما بالغت قليلًا في إسداء النصائح..
سامحوني على ذلك، وعذري الوحيد هو رغبتي الصادقة في أن أموت فارغًا من العلم والمعرفة.
وآخر ما يمكن أن أقوله هنا هو الآتي:
أروع شعور يمكن أن يختبره الإنسان هو أن يتوقع حدوث شيء ما ويستعد له جيدًا، ثم يتحقق بالفعل، فيفرح لأنه كان مستعدًا له، ولم يفاجئه الأمر.
وأنت كذلك.. تخيل أنك عندما تنتهي رحلتك في هذه الحياة، لا شيء يفاجئك على الإطلاق.
لقد أعددتَ العدة لهذا اليوم، وإجاباتك جاهزة لكل سؤال، فقد كنت على يقين دائم بأن الدنيا ليست سوى محطة عبور إلى ما بعدها، في حين أن آخرين صعقوا بالمفاجأة، مثل طالب استيقظ صباحًا ليكتشف أن لديه امتحانًا اليوم، وأن هناك ألف سؤال ولا توجد إجابة واحدة.
أما أنت، فكل مخاوفك تنحصر في المصير الذي ينتظرك، إنه أشبه بطالب متأكد من نجاحه بتفوق، ولكنه قلق بشأن مستواه النهائي.
الذكي حقًا هو من يحدد أمنيته ورغبته الأولى في شبابه، حتى يعرف ما هي أمنيته الأخيرة في شيخوخته.